فصل: (سورة الأنعام: الآيات 68- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: الآيات 65- 67]

{قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)}.
{هُوَ الْقادِرُ} هو الذي عرفتموه قادرًا وهو الكامل القدرة {عَذابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل من فوقكم: من قبل أكابركم وسلاطينكم.
ومن تحت أرجلكم: من قبل سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:
وكتيبة لبستها بكتيبة ** حتّى إذا التبست نفضت لها بدى

وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «سألت اللّه أن لا يبعث على أمتى عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرنى جبريل أنّ فناء أمتى بالسيف» وعن جابر بن عبد اللّه لما نزل {مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» فلما نزل {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قال: «هاتان أهون» ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. والضمير في قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ} راجع إلى العذاب {وَهُوَ الْحَقُّ} أي لابد أن ينزل بهم {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ وكل إلىَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجبارًا، إنما أنا منذر {لِكُلِّ نَبَإٍ} لكل شيء ينبأ به، يعنى إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به {مُسْتَقَرٌّ} وقت استقرار وحصول لابد منه. وقيل: الضمير في {بِهِ} للقرآن.

.[سورة الأنعام: الآيات 68- 69]

{وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}.
{يَخُوضُونَ فِي آياتِنا} في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} فلا تجالسهم وقم عنهم {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فلا بأس أن تجالسهم حينئذ {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ} وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهى عن مجالستهم.
{فَلا تَقْعُدْ} معهم {بَعْدَ الذِّكْرى} بعد أن تذكر النهى. وقرئ: ينسينك. بالتشديد.
ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهى قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى} بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم {وَلكِنْ} عليهم أن يذكروهم {ذِكْرى} إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون، أي يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروى أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم. فإن قلت: ما محل ذِكْرى؟ قلت: يجوز أن يكون نصبًا على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أي تذكيرًا. ورفعا على: ولكن عليهم ذكرى.
ولا يجوز أن يكون عطفًا على محل {مِنْ شَيْءٍ}، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأنّ قوله: {مِنْ حِسابِهِمْ} يأبى ذلك.

.[سورة الأنعام: آية 70]

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.
{اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعبًا ولهوًا. وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، ومن جنس الهزل دون الجد. واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينًا لهم. أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبًا ولهوًا، حيث سخروا به واستهزؤا. وقيل: جعل اللّه لكل قوم عيدًا يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر اللّه والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعبًا ولهوًا، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه اللّه. ومعنى ذرهم اعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم {وَذَكِّرْ بِهِ} أي بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسها. وأصل الإبسال المنع، لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال:
وإبسالى بنىَّ بغير جرم ** بعوناه ولا بدم مراق

ومنه: هذا عليك بسل، أي حرام محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور. يقال: بسر الرجل إذا اشتدّ عبوسه، فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس: منقبض الوجه {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها} وإن تفد كل فداء، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدى بمثله. وكلّ عدل: نصب على المصدر. وفاعل {يُؤْخَذْ} قوله: {مِنْها} لا ضمير العدل لأنّ العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ} فبمعنى المفدىّ به، فصحّ إسناده إليه {أُولئِكَ} إشارة إلى المتخذين دينهم لعبًا ولهوًا. قيل: نزلت في أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان.

.[سورة الأنعام: آية 71]

{قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)}.
{قُلْ أَنَدْعُوا} أنعبد {مِنْ دُونِ اللَّهِ} الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا {وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا} راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا اللّه منه وهدانا للإسلام {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ} كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان {فِي الْأَرْضِ} المهمه {حَيْرانَ} تائهًا ضالا عن الجادة لا يدرى كيف يصنع {لَهُ} أي لهذا المستهوى {أَصْحابٌ} رفقة {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} إلى أن يهدوه الطريق المستوى. أو سمى الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له {ائْتِنا} وقد اعتسف المهمه تابعًا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنى على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوى الإنسان، والغيلان تستولى عليه، كقوله: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ} وهو الإسلام {هُوَ الْهُدى} وحده وما وراءه، ضلال وغىّ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا}. {فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}. فإن قلت: فما محل الكاف في قوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ}؟ قلت النصب على الحال من الضمير في {نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا} أى: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت: ما معنى {اسْتَهْوَتْهُ}؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه. فإن قلت: ما محل {أُمِرْنا} قلت: النصب عطفًا على محل قوله: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم. فإن قلت: ما معنى اللام في {لِنُسْلِمَ}؟ قلت: هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. فإن قلت: فإذا كان هذا واردًا في شأن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعوا؟
قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين، خصوصًا بينه وبين الصديق أبى بكر رضى اللّه تعالى عنه.

.[سورة الأنعام: الآيات 72- 73]

{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}.
فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا}؟ قلت: على موضع {لِنُسْلِمَ} كأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أي للإسلام ولإقامة الصلاة {قَوْلُهُ الْحَقُّ} مبتدأ. ويوم يقول: خبره مقدّما عليه، وانتصابه بمعنى الاستقراء، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين. والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائما بالحق والحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء {كُنْ فيكون} ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي لا يكون شيأ من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب. {ويَوْمَ يُنْفَخُ} ظرف لقوله: {وَلَهُ الْمُلْكُ} كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ ويجوز أن يكون {قَوْلُهُ الْحَقُّ} فاعل يكون، على معنى: وحين يقول لقوله الحق، أي لقضائه الحق كُنْ فيكون قوله الحق. وانتصاب اليوم لمحذوف.
دلّ عليه قوله: {بِالْحَقِّ} كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق {عالِمُ الْغَيْبِ} هو عالم الغيب، وارتفاعه على المدح. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}.
التفسير: من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله: {وهو القاهر فوق عباده} والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس، ويتصرف فيها كيف يشاء، علويات كن أو سفليات، ذوات أو صفات، نفوسًا أو أبدانًا، أخلاطًا وأركانًا. ومن جملة قهره إرسال الحفظة- وهي جمع حافظ- على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18] وعلى أفعالهم بقوله: {يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 12] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء: من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجرًا له عن القبائح. ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن.
ومنها التعبد فعلى الملكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء: الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء: منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مبادٍ من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادئ في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل: إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها {حتى إذا جاء أحدكم الموت} أي وقته أو أماراته {توفته رسلنا} أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله: {يتوفى الأنفس حين موتها} [الزمر: 42]. وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله: {يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان: أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. {وهم لا يفرطون} لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة {ثم ردوا إلى الله} أي إلى حكمه وجزائه {مولاهم الحق} صفتان والضمير في {ردوا} إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتًا والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجودًا قبل البدن وقد تعلق به زمانًا ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة {ارجعي إلى ربك} [الفجر: 28] {ألا له الحكم} كقوله: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57] {وهو أسرع الحاسبين} حسابًا قيل: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل: يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله: {ولا يكلمهم الله} [البقرة: 174] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي- ههنا: لو كان كلامه قديمًا لوجب أن يكون متكلمًا بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم. وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالمًا بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالمًا بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} مجازًا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. {تدعونه} في موضع الحال {تضرعًا وخفية} مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله: {وخفية} ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله: {لئن أنجيتنا من هذه} الظلم والشدة {لنكونن من الشاكرين} فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى. وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا.